كان لعمي ابراهيم جحشٌ ظريف مشاكس قليلاً، وكان يحرص على تدريبه وترويضه، ويربطه في شحرة قبالة بيتنا على الطريق العامK حتى يألف رؤية الناس، وكان هذا من ضمن كورس الترويض، تعلّقنا به كأطفال، وأنشانا معه علاقة ود، لدرجة أننا كنا نمسّد على ظهره ونلاطفه ، كما كنا نحضر له البرسيم والشعير من سقيفة جدي دون تأنيب ضمير، باعتبارها ليست سرقة، يعني من العِب للجيب، أو زيتنا في دقيقنا، وكم كنا نسعد ونحن نراقبه وهو يمضغ ويتلمّظ ما نقدمه له بمتعة كبيرة، ثم يُحدّجنا بنظرة جائعة كأنه يطلب المزيد، بعد أن فتحنا شهيته بهذا الطعام اللذيذ، وكنا نعتذر له بقولنا: يكفي اليوم، حتى لا يكتشفنا الجد ويغلق باب السقيفة بالمفتاح، وتحرم من هذه النعمة، فيهز رأسه متفهماً، ويكشف عن ثناياه مبتسماً، وينصب أذنيه راضياً ومقتنعاً!
وفي أحد الأيام استيقظتُ أبكر قليلاً من أعضاء الشلّة ولم أنتظر حتى يستيقظوا ليشاركوني متعة تقديم الإفطار لهذا الجحش الظريف، فانسللت إلى السقيفة واختطفت حزمةً من البرسيم، وركضت مبتهجاً لأقدمها إليه، وما إن قرّبتُها من فمه، حتى نطحني برأسه ملقياً إياي أرضاً، ثُم بدأ بالدوس بحوافره في بطني، وحين علا صراخي هرع الجمبع لنجدتي، وانتشلوني من تحت حوافره وضربوه ضرباً مبرحاً، حضر عمي ابراهيم وحضر طبيب القرية ليتأكد أنني لم أصب بأذىً بالغ أو نزيف داخلي أو عاهة مستديمة، وحين تأكد أنني بخير نظر إلى الحمار وعقّب: هذا الحمار عنده طاقة زائدة تسببها موجات كهربائية زائدة في دماغه، انتبه عمي ابراهيم لما يقوله الطبيب وسأل: هل يعني ذلك أنه مجنون.
ورد الطبيب بوقار:
- ليس بالضبط ولكنه مصاب بنوع من الصّرع.
هزّ عمي ابراهيم رأسه إلى الأعلى والخلف رافعاً ذقنه علامة الرفض وعقّب على كلام الطبيب:
- والله يا دكتور هو لامجنون ولا حاجة،ولكنه مثل بعض البشر،مهما تحسن إليه فإنه يكافؤك بالرفس والإنكار،إنه الطبع المطبوع عليه بعض البشر وبعض الحيوانات!
أمال الطبيب رأسه وبسط يديه مسلماً بوجهة نظر عمي ابراهيم.
ولكن الأمور لم تنته عند هذا الحد،ففي أحد الليالي قطع هذا الحمار المتمرد رسنه وأفلت وهام على وجهه،واستيقظ أهل القرية على نهيقه وصراخه المتألم،فوجودوا أنه قد نهشه ضبع نهشات عميقة وأكل جزءاً منه وهو حي،لمحوا الضبع مولياً ويبدو أنه أحس بقعقتهم فولّى هارباً،وترك الحمار يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو في شدّة الألم.
وحين سمعت الحكاية أسفت لمصير هذا الحمار الذي لم يُقدّر أبدا كرمنا معه ومعاملتنا الحسنة له، ولا حرص صاحبه عليه،ولم يفهم أن ربطه في الليل هو للحفاظ على حياته!
انتهت قصة الحمار وبدأ أهل القرية حملة لمطاردة الضبع لقتله حتى لا يتأذى أحد وخاصة الأطفال من هذا الوحش بعد حادثة الجحش التي كنت أنا ضحيتها!