عندما كانت البادية مصدر إلهام الشعراء والكتاب والفنانين
تاريخ النشر 12 Feb 2023

تونس لوحة لغوستاف لينو بواسطة gaffera. بواسطة Blogger

.بقلم بلخيري محمد الناصر

قديما عندما تضيق بنا المدينة وتتداخل أفكارنا, ويشوش تركيزنا و يعتلينا ثقل الصدر ووساوس القلق, ويهجرنا الحرف وعذب الكلمات ويغلق خيالنا ليصبح خاملا, نرمي بخطواتنا نحو أحضان البادية العذراء, و برزخها الهادئ الجميل ونسيمها النقي المنعش ووسائلها التقليدية البسيطة. إنها منبت الأصالة وعمق الكرم والطيبة وشموخ القامة وعلو الهامة ومنزل المروءة, حيز الراحة النفسية والانبساط الروحي, على نور قمرها يجتمع الأحبة لتتعانق أرواحهم وترتبط قلوبهم بحبل الود, فبين مسالكها نسعد ومن ثراها نستمد قوتنا ويسهل تخاطرنا مع طيف من نحب, وكلما انصهرت خطانا في عمقها إلا وزاد إلهامنا لنبدع, لأن منطقها إقدام وخشوعها مستدام وفلسفتها نبع لا ينفذ, ووحي فلسفتها بحر متلاطم الأمواج.

في رحابها ننتعش وتشرق شمس أفكارنا ويخفف حملنا لنصبح همسا في قلب النسيم, سهما نحو النجوم, مشاعرا تزحف نحو المستحيل, حسا شاعريا وإبداعا يستمد نوره من مد الفسحة والرحابة, تتسع بصيرتنا و تحتوينا الأبعاد الفكرية التي لا يحدها حد ولا يجاريها مد ولا يضاهيها قد, فيسهل استنباطنا ويشع فكرنا, فيخف قلمنا ويزهر حرفنا ونبدع .

خلال الحقبة الاستعمارية كان الرسامون الأجانب أمثال غوستاف لينو ونصر الدين دينات يستلهمون فنهم من العمق الجزائري (الصحراء والريف ) وكل ما هو تقليدي فألهمتهم الطبيعة الغناء والتقاليد العذراء وشموخ أجدادنا وهم يتبخترون في ألبستهم العريقة وزيهم العربي الأصيل الممزوج بألوان الحضارات المتعاقبة على الجزائر وأسواق مواشيهم و بناياتهم العتيقة, فأبدعوا لوحات فنية أشرقت بأنوارها في كل عواصم العالم ونالت جوائز قيمة وكانت أحسن رسول يمثل بيئتنا ولحد الساعة ما تزال الصحراء ومداشرنا مصدر إلهام للكتاب والمثقفين.

لقد هجرنا البادية فحزنت وعافت أحوالها وما حولها, انكمشت واعتراها الشجن والحزن الدفين, ولبست رداء الحزن فاختفى زهرها والرحيق وتلاشت مسحتها وضاع معه حس الضيافة وبريق الترحاب وقداسة الرهبة ومنطق الخشوع. سكنا الحضر وابتلعتنا الماديات ومغرياتها فسلبت همتنا وثبطتنا عن الإبداع , فتهنا وتشعبت أفكارنا فتآكلت وسط هوس الحضارة وسموم الغرب فاختلطت أمورنا وضاع منا الجد, سعينا وراء جلب المتعة ودفع المفاسد فانحلت الأخلاق وتفككت الروابط الأسرية وأنقطع ود الأرحام, شتات هنا وهناك, انكببنا على الهواتف وجرفنا تيار الخلوات والبعد عن النقاش والندوات واللقاءات, فتفكك الأدب وانهارت المقومات واختفت الشعارات واحتوانا السبات, يقول تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) الحديد: 20.

إن من ممهدات علو الهمة الترفع عن ساقطات الأمور و مقززاتها ، وطلب الكمال ومحفزاته فالتشبث بصغائر الأمور من دناءة النفس و محطمات همتها , لقد انقطعنا عن أصالتنا وأصلنا وتشبثنا بالقشور وبموضة فاسدة استوردت من وراء البحار, جعلت من شبابنا مسخا, فلم نعد نفرق بين الذكر والأنثى, تشتت الانتباه وضعف التركيز وسيطر علينا الملل فلم نعد نهتم بالفكر ولا بالثقافة, تركنا المطالعة ولم نعتد نهتم بما يرفعنا ويعلي همتنا ويرقع تمزقنا ويجمع صفنا ويلملم جراحنا ويوحد تفرقنا ويقوي شوكتنا. إن القراءة مشروع إصلاح لبناء مجتمع متحضر يميز بين الغث والسمين, إن الانفصام الحاصل الآن بين هويتنا وثقافتنا حكم على جميع مشاريعنا بالفشل وعليه فيجب علينا أن نعود إلى أصالتنا الحقيقية وثقافتنا الأصيلة النقية, لأن الثقافة العربية ليست مستوردة ولا هجينة ولا منغلقة, غذاها القرآن وأمدها بالقوة والسلطان والمتانة وعليه فقد آن الأوان لتكون رائدة الثقافات.




كل التعليقات ( 0 )

أخبار ذات صلة

المزيد من الأخبار

جميع الحقوق محفوظة © 2023 الحوادث
طورت بواسطة : Zahid Raju