Alhawadeth Archive
والسؤال هو هل توجد أديان لا إلهية؟
لقد أجاب الشهرستاني في مصنفه الشهير' الملل والنحلّ'
على هذا السؤال بوصف هذه الأديان مُجمِلاً إياها تحت عنوان' عقائد الإشراقٌ'، ويندرج تحتها البوذية بما فيها بوذا الزن، والهندوكية المشتقة منها والكونفوشيوسية، وهي العقائد التي لا تعبد خالقاً، وإنما تستبطن الحكمة الداخلية التي تنير الوعي الإنساني، وذلك بالتأمل عند البوذية واليوغا عند الهندوس، فهل هذا هو منتهاها وهل تتوقف عند حد التأمل التماساً للحكمة والإنارة؟
في الحقيقة لا، فهذه الاديان هي بنية متماسكة مبنية على قواعد ومفاهيم، مما يجعلها أقرب إلى الفلسفة المتكاملة باختلاف الأدوات، فما هي سمات هذه البنية يا تُرى، وما هي الأسس والمفاهيم التي بنيت عليها؟
أول سمات هذه الأديان، انها تسقط السؤال من أين جاء هذا الكون، وهل له خالق، وعوضاً عن ذلك فإنها تأخذ الكون كمعطى وكمسلم به، لا ضرورة للسؤال عن أصله ونشوءه، وعوضاً عن هذا السؤال غير الضروري من زاوية رؤيتها والذي هو تضييع للجهد الإنساني، فإننا سنختصر الطريق ونبحث عن المعنى أو الحكمة، بمعنى لماذا نحن موجودون، وضمن أي نظام، فإذا أجبنا عن هذا السؤال نكون قد وصلنا إلى الغاية التي يلتمسها عابدو الخالق دون أن يجدوها أبداً! فكيف يمكن الإجابة عن السؤال حول معنى الكون والحكمة من وجوده؟
لقد وضع بوذا وهو ابن لملك هرب من القصر مع خادمه أناندا، وجلس تحت شجرة تين كما في الهيأة التي تبديها الصور والتماثيل، ومن خلال حديثه لأناندا ومحاولة إفهامه ما توصل إليه من خلال هذا التأمل، سجل كتب حكمته الأربعة المسماة بالسُترات أي المدوّنات ، وفيها يقرر أن أول عائق أمام بلوغ الحكمة النهائية هو العقل البشري ذاته، ومفاهيمه وُبناه، لأن العقل يستحيل عليه أن يأخذ الكون كمعطى واحد متكامل، فيلجأ إلى تجزئته بأداة المفاضلة فهو يجزّيء الكون الكامل إلى نجوم ومجموعات وكواكب وهكذا ويطلق عليها مسميات محددة ثم يعيد الكرة ولكن باتجاه عكسي فيعيد جمع الاجزاء ومكاملتها وصولاً إلى الكون الكامل، وهكذا يمضي في حلقة مفرغة دون أن يبلغ منتهى الحكمة وغاياتها، ولذا فإن علينا إفراغ العقل وتحريره من مصيدة التفاضل والتكامل لنضعه على أعتاب الحكمة.
أما على المستوى الآخر، مستوى المفاهيم المجردة والأخلاق والسلوكيات فيقول بوذا أن العقل البشري يعمل من خلال الثنائيات: الخير والشر ، الجميل والخبيث ، الصحيح والخطأ، وهذه هي الحجاب الذي يحجبه عن الحقيقة النهائية التي تتحد فيها الأشياء اتحاداً نهائياً ولا يصبح لهذه الثنائيات أي معنى، ولا يمكن تحرير العقل من هذه الثنائيات إلا بالتأمل الطويل والمستمر.
وهكذا فإن الثنائيات والمفاضلات هي المستوى الأدنى الذي يمارس الإنسان ضمنه حياته وعلاقاته اليومية، وأن الحكمة هي الإرتقاء المستمر عن هذا المستوى بالتأمل وصولاً إلى ما يسميه العدم المطلق المشع أو المتلأليء أو النيرفانا، والتي ليست هي الجنة أو السرور أو السعادة لأن هذه أغراض دنيا نتحرر منها ضمن هذا المستوى المطلق.
طبعاً ينتبه بوذا بذكاء إلى صعوبة تحقق هذا الأمر في سياق الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية، فيقول مخاطباً أناند خادمه المخلص: خادمه كممثل للبشر القاصرين، سأبقى أصف لك الحكمة ولكنك لن تفهمها أبداً، تماماً كأني اصف لك الأسد حتى تتعرف عليه فتهرب قبل أن يأكلك، فأقول لك له لبدة حول راسه ومخالب في قدميه ورأس كبيرة يبدو جسده نحيفاً ومنساباً خلفه، حتى ينحدر في النهاية مع الذيل، وتهز راسك يا أناند كأنك فهمت، ثم يمر الأسد من جانبك' يقصد الحكمة طبعاً' ولا تعرف أن هذا هو الأسد.
وإذن فإن بوذا يقرر أن هذا الدين أو هذا الطريق هو طريق فردي وليس طريقاً جماعياً، فلا خلاص جماعي بمفهوم االبوذية وتوابعها.
يبقى أن نقول أن عقائد الإشراق هذه تعتبر الجسد الإنساني جزءأً من المادة الكونية ولذا فهو متصل بظواهرها ومتلق لإشاراتها، وهكذا فإن الكون يقوده باعتباره جزءاً منه، ولذا فما علينا إلا أن نتماهى مع الكون لإسقاط الحواجز بيننا وبين الحكمة!
والآن لو وضعنا هذه الأديان في مقابل الأديان السماوية أو الاديان الشخصية التي تعبد خالقا ً،فكيف سيبدو الأمر؟
في حين أن الدين السماوي أو الشخصي الذي يعبد خالقاً ، يرجع في حواراته وجدلياته إلى العقل كركيزة أساسية للإقناع، تدعو عقائد الإشراق إلى التحرر منه وإسقاط ثنائياته وأدواته وصولاً للعدم الكامل او المطلق الذي لا تشوبه شائبة.
تاريخياً انحدرت العقائد الإشراقية عبر ممارسات الكهنة ومدوناتاهم إلى نسخة مشوهة من الدين السماوي وتحولت إلى عبادة عدد كبير من الآلهة لها سطوة وسيطرة على حياة الإنسان ومصيره، وفي الغالب فهي تمثل قوة من قوى الطبيعة، وكأنها ارتدت إلى الوثنية الأولى التي تجاوزتها الأديان السماوية وخلفتها وراءها مندرجة في عالم الأساطير والحكايات، فهناك إله للخصب وإله للرعد وإله للمطر، كما أن هناك إله للدمار وإله للعشق أيضاً.
أما على المستوى السلوكي والمنظومة الإجتماعية وحيث أنه لا حلال ولا حرام بل درجات متفاوتة من النقاء تتحقق بالجهد الإنساني، وهذا الإعتراف بالجهد الإنساني أعادها إلى دائرة الثواب والعقاب، فاستبدلت الجنة والنار بالتناسخ أو انتقال الروح بالتجسد إلى حالة أدنى او أعلى فيدخل في حيوان أو حشرة أو نملة.
وبالنتيجة فإن هذا يعد نكوصاً بالمقارنة مع الأديان السماوية التي مثلت هذه المفاهيم في نماذج أكثر نضجاً وتوافقاً مع العقل وفعالية في الحياة الإنسانية.
وهكذا فإن ما آلت إليه عقائد الإشراق في غمار تعقيد الحياة المعاصرة وثقلها، آلت إلى أن تمثل مهرباً من أعباء هذه الحياة والتي فشلت المجتمعات الغربية والحضارة الغربية في تقديم الحلول لها من خلال المؤسسة الكنسية. وهكذا ينفرد الإسلام كدين فردي واجتماعي في الوقت نفسه بهذه الميزة، ولذا نجد أنه اكثر الاديان اعتناقاً ونمواً وإقبالاً عليه في المجتمعات المعاصرة، ردة إلى أكنافه في المجتنعات المسلمة، كسبيل للنجاة من الإحباطات والإخفاقات، وتحول في المجتمعات غير المسلمة بحثاً عن السلام والسكينة والتصالح مع الذات.
أخبار ذات صلة
كل التعليقات ( 0 )