الحقيقة الإنسانية والواقع اليومي والرمزية اللغوية
تاريخ النشر 27 May 2023

ابراهيم ابو عواد

Alhawadeth Archive


إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

1

البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية ، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً

جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع

معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة ، وتشكيلِ الهُوِيَّة

الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها ، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي

تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع ، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد .

وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي ، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس

على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية . وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ

مِن العَيْشِ خارج التاريخ ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي . والوَعْيُ إذا

اتَّصَفَ بالحَيَاةِ ، والحَيَوِيَّةِ ، والحُرِّيةِ في ذاته ، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية

المُحيطة به ، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة ، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا

الغَيبوبةِ المَعرفية ، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن .

2

مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ ، وغَير خاضعة للتَّجنيس

المَكَاني ، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا ، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ

الألفاظِ والمَعَاني . وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن

التَّشَيُّؤ ( تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء ) . وإذا صارَ

الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع ، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه ، فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي

سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي.وهذا التَّشَظِّي شديد

الخُطورة ، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية ، بلا تخطيط ولا

تنظيم . وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي ، وإذا غابَ

اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية،فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ،

ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة ، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في

الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح .

3

لا مَعنى للوَعْيِ خارج عملية التفاعل النَّقْدِي معَ الأنساق الثقافية التَّحَرُّرِيَّةِ لا الفَوْضَوِيَّةِ ،

ولا قيمة للفِكْرِ خارج نطاق الفِعْلِ الاجتماعي القائم على قُوَّةِ المَنطقِ لا مَنطقِ القُوَّة . وَهَذَان

المَبْدَآن يُحَدِّدَان طبيعةَ الحقيقةِ الإنسانية القائمة على العقلانيةِ لا الاضطهادِ ، ويُكَوِّنان ماهيَّةَ

الواقعِ اليَومي القائم على الاختيار لا الاضطرار ، ويَصنعان هُوِيَّةَ الرمزيةِ اللغوية القائمة على

التَّمحيصِ لا التَّقديسِ . وهذا يَعْني أنَّ قواعد البناء الاجتماعي هي : الحقيقة الإنسانية ،

والواقع اليَومي ، والرمزية اللغوية . وهذه القواعدُ الثلاث تتبادل الأدوارَ فِيما بَينها ، لأنَّ

البناءَ الاجتماعي لَيْسَ كُتْلَةً أسْمَنْتِيَّةً أوْ إطارًا حَجَرِيًّا أوْ شكلًا ثابتًا ، وإنَّما هو بناءٌ وُجودي

يَمتاز بالحركةِ والمُرُونةِ والانطلاقِ ، والقُدرةِ على تبديلِ الأنساقِ الثقافية ، والقوالبِ الفِكرية

، والسِّيَاقاتِ الزمنية ، والتجاربِ الحياتية ، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأحداثِ اليوميةِ والوقائعِ

التاريخيةِ . وكُلُّ بناءٍ اجتماعيٍّ هو بالضَّرورة بُنيةٌ معرفية ، وسيظلُّ الوَعْيُ عُنصرًا أساسيًّا

في تَكوينِ الفِعْل الاجتماعي في البيئة المُعَاشة ، وإعادةِ إنتاج النظام اللغوي لِيَصِيرَ دَليلًا على

الحقيقةِ الإنسانيةِ ، ودَلالةً على تَجاوزِ الفرد لذاته في رحلته لاكتشافِ وُجُودِه في المُجتمعِ ،

وَوُجُودِ المُجتمعِ في التَّحَوُّلات الحضاريةِ مَحَلِّيًّا وعالميًّا .

4

الوَعْيُ النَّقْدِيُّ في المُجتمع لَيْسَ نَسَقًا أُحَادِيًّا ، وإنَّما هو شَبَكَةٌ مُعَقَّدَةٌ مِن العلاقاتِ

الاجتماعيةِ ، والمعاييرِ العقلانيةِ، والأنساقِ الثقافية.وهذه الشَّبَكَةُ تُؤَسِّس مناهجَ لُغَوِيَّةً قادرة

على تفسير الرابطة بين المعرفةِ والمصلحةِ مِن جِهَة ، وبين التاريخِ والسُّلطةِ مِن جِهَة أُخْرَى

. وهذا يدلُّ على أنَّ التأويلَ اللغوي هو الحَكَمُ بَين عناصرِ البناء الاجتماعي، والحاكمُ على

إفرازاتِ الواقع اليومي، لأنَّ اللغةَ وَحْدَهَا هي القادرة على تخليدِ اللحظة الآنِيَّة، ونَقْلِها عبر

مراحل الزمن . وكُلُّ مُجتمعٍ خارج اللغة يُعْتَبَر وَهْمًا لا هُوِيَّة له ولا ماهيَّة ، وكُلُّ واقعٍ خارج

اللغة يُعْتَبَر فَرَاغًا لا كِيَان له ولا كَينونة ، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغةَ هي المَرجعيةُ الوُجوديةُ التي

تُقَدِّمُ الحقيقةَ الإنسانيةَ أوْ تَسْلُبُها، والشَّرعيةُ المعرفيةُ التي تُفَسِّر الفِعْلَ الاجتماعي كَنُقطةِ

تَوَازُن بين العقلِ الجَمْعِي والسُّلوكِ الأخلاقي.



كل التعليقات ( 0 )

أخبار ذات صلة

المزيد من الأخبار

جميع الحقوق محفوظة © 2023 الحوادث
طورت بواسطة : Zahid Raju