بواسطة
عالم اليوم ليس كعالم الأمس. ولم يعد دبلوماسي اليوم يؤمن بالمقولة القديمة: "ما أشبه الليلة بالبارحة" وحلت محلها رباعيات عمر الخيام حين قال: "لا تشغل البال بماضي الزمان، ولا بآتي العين قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته، فليس في طبع الليالي الأمان".
انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 بصعود أمريكا وروسيا السوفيتية إلى قمة تسيد الديبلوماسية العالمية. وحين إنشاء الأمم المتحدة بميثاق سان فرانسيسكو في ذلك العام، كان ستالين قد صرح بطمعه في السيطرة على مجلس الأمن الدولي وقال لفرانكلين روزفيلت بوجوب إدخال كل الدول ال 16 الضالعة في نظام السوفييت بعضوية مجلس الأمن. فرد عليه ثعلب الدبلوماسية الغربية، فرانكلين روزفيلت: "إذا عليك بقبول ال 50 ولاية أمريكية أعضاء في مجلس الأمن". وأغلق باب ذاك التصارع على الهيمنة العالمية بالنص في ميثاق المنظمة العالمية الجديدة على أن العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي تتألف من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين. وما زال الحال الحاضر كما هو، ولكل من تلك الدول حق الفيتو.
في ذلك الحين لم يكن للصين صوت مسموع. رئيسها شانج كاي تشيك ذو الميول الغربية طاردته القوات الشيوعية برئاسة ماو تسي تونغ إلى جزيرة تايوان. أدارت أمريكا دفة السفينة العالمية وظلت الصين مبعدة عن عضوية الأمم المتحدة، وبقيت الخرافة بأن جزيرة تايوان تعني الصين الكبرى حتى عام 1971 حين صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قبول الصين الكبيرة عضوا بالأمم المتحدة. وانتهت الخرافة التي روجت أمريكا لها بشأن تمثيل الصين في المنظمة العالمية.
وجاء اعتراف جمال عبد الناصر بالصين الكبيرة في الخمسينات من بين أسباب انتهاء شهر العسل الذي كان بينه وبين أمريكا. فأجهضت أمريكا قرض البنك الدولي بمقدار 200 مليون دولار لبناء السد العالي في مصر. ورد عبد الناصر الصفعة بالصفعة قائلا: "موتوا بغيظكم" وأعلن تأميم شركة قناة السويس عام 1956 وبدأت المفاوضات مع خورتشوف لبناء السد العالي. وتآمرت إسرائيل في عهد بن غوريون مع إنجلترا وفرنسا لضرب مصر تأديبا لها، فردت مصر الناصرية بإغراق سفن تحمل الإسمنت في وسط قناة السويس فأغلقتها. وليس من طريق بحري دولي يضارع قناة السويس. فأسرعت الأمم المتحدة إلى تطهير القناة والدفع بقوات السلام الدولية إلى الوقوف في شرق سيناء حماية للقناة والسلام المتأرجح بين مصر وإسرائيل. وحينما عبرت القوات المصرية في أكتوبر عام 1973 القناة إلى سيناء المصرية بعد تحطيم خط بارليف الإسرائيلي تأكدت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أن عهد السادات هو عهد فرصة السلام بين مصر وإسرائيل وذلك لأنه لا قبل للسلاح الإسرائيلي بمقاومة الموجات البشرية المصرية الضخمة لفترة طويلة. وانتهت تلك الملحمة بتدخل هنري كيسنجر مستشار أمريكا للسياسة الخارجية بإقناع السادات بأهمية زيارته إلى إسرائيل، وعقد السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 ، وعزلت مصر عن الوطن العربي.
في وسط هدير هذا الخضم من المتغيرات الدولية، ظلت الصين صامتة، رغم حبها لمصر ذات الحضارة القديمة التي تتوافق مع المزاج الصيني في تمجيد الحضارات القديمة، غير أن فلسفة السياسة الأمريكية قائمة على مبدأ "فرق تسد" وهو مبدأ أنجلو ساكسوني أعرب عن نفسه في الاستعمار في إفريقيا وخارجها وفي قرار تقسيم فلسطين وعلينا، نحن العرب، أن نضع في اعتبارنا دائما في أن التحزب الدولي هو الطريق إلى التناحر الدائم، وهو طريق حاول عبد الناصر و جواهر لال نهرو (الهند) وسكارنو (أندونيسيا) ونيكروما (غانا) وتيتو (يوغسلافيا) و هاهاها البعد عنه بتأليف مجموعة الدول "غير المنحازة". قبلت الصين عضوا بالمجموعة، وساعدتها عضوية الأمم المتحدة فيما بعد على البث الهادئ لثقافتها القائمة على تلاقي المصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وهذه مظاهر دبلوماسية وسياسية لطريق الحرير الصيني الذي تحول الآن إلى طريق دولي كل محطاته تلاقي المصالح رغم اختلاف العقائد.
ومن رحم تلك الفلسفة خرجت الصين علينا الآن "بمبادرة الأمن العالمي" Global Security Initiative وبدأ لنا الفارق بين الخط الأبيض والأسود. الخط الأبيض هو التوافق والخط الأسود هو التناحر. وبدأ الفارق بين الخطين في زيارة الرئيس بايدن إلى السعودية سعيا وراء تخفيض أسعار البترول. وباء بالفشل الذريع من بين اشياء ذلك الفشل، أنه عمد إلى عدم مصافحة الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، مستعيضا عن تلك المصافحة بتلاقي "الكوع" مع كوع المضيف، حمل بايدن في دماغه مقتل خاشقجي واتهام بن سلمان بتدبيره. ورفضت السعودية تخفيض سعر البترول، وهو المصدر الأول للثروة القومية. هذا عدا عن سخط الرياض على الاتهامات الأمريكية بضلوع بن سلمان في مصرع جمال خاشقجي. وهو أمر تعتبره الصين أمرا داخليا، ووسيلة أخرى لشكر السعودية على عدم تدخلها في طرق معاملة الصين للمسلمين في سينكيانج غرب الصين ويسمون ب "الايجور"
لكل هذه الأسباب، ومن بينها أن الصين تعتمد بنسبة 40% حاجاتها للطاقة من البترول الخليجي، وإن الخليج هو سوق ضخمة للمنتجات الصينية، يرى الخليج في الصين شريكا دوليا أفضل من الشراكة الأمريكية القديمة. وهي شراكة يثقلها تدخل أمريكا في شئون تلك المنطقة الحيوية من الباب الخلفي المسمى ب "حقوق الإنسان والديمقراطية". وهي تعبيرات لا تفسير واضح لها سوى إنها تنغص رغبة العرب في صد تيار التدخل الخارجي. وهو مبدأ تؤكده أهم وثيقة دولية في العصر الحديث المسماة "إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول بما يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة " (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625 لعام 1970)
العمود الفقري في تلك الوثيقة الدولية الهامة التي أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من القانون الدولي العام هو "عدم التدخل في الشؤون الداخلية " لذلك نرى ميثاق الأمم المتحدة في مادته رقم 7 يقول نصا: "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما" وترك تفسير معنى الشئون الداخلية للدولة نفسها، وليس للأمم المتحدة.
هذا المبدأ تطبيقه الصين تطبيقا كاملا، اذ هي الدولة الكبرى الوحيدة التي تعرضت منذ القرن التاسع عشر لتدخل الدول الخارجية في صميم شئونها الداخلية. ونظرا لتلاقي النظرة الصينية والنظرة العربية في هذا المجال الحساس من مجالات السيادات الداخلية، تمكنت الصين في شهر مارس من هذا العام من احداث مصالحة تاريخية بين إيران والسعودية.
تمكن رجل الدبلوماسية الصيني وانج يي Wang Yi من إن يوفق بين إيران والسعودية. وخرجت علينا جرائد العالم بمنظر المصافحة التاريخية في العاصمة الصينية بين الممثل الإيراني علي شامخاني أمين مجلس الأمن الإيراني ومسعد ألعيبان وزير الدولة السعودي.
الصين في حاجة إلى الطاقة السعودية وإلى بيع منتجاتها في الأسواق الخليجية، والسعودية في حاجة إلى بيع بترولها للصين التي أصبحت أهم سوق للبترول السعودي وإلى تعميق الصلات مع الشرق الجديد إذ أصبحت أمريكا في نظر العرب قوة لا يعتمد عليها. وكيف يتم الاعتماد عليها وسياساتها تتغير كل أربع سنوات بانتخابات رئاسية؟ ولا ينسى العرب حظر الرئيس الأمريكي السابق ترامب على هجرة المسلمين إلى أمريكا.
لم يكن من الغريب أن تحقق الصين ما لم تستطع منظمة التعاون الإسلامي ومقرها جدة أن تتوصل إليه من مد جسور الأخوة بين العرب وفارس. والعبرة بالخواتيم. أمة الإسلام أمة واحدة، ولكن الغرب يحاول تفريقها بين سنة وشيعة، بينما تعمل الصين على تخطي أسوار هذه المعوقات بالإتجار مع الجميع، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، ومراعاة الفوارق الحضارية، وتأكيد ما يسميه الرئيس الصيني تشي "بالفلسفة الصينية"
وجه السهم الأخير الموجه إلى واشنطن بما قاله في حفل ختامي رئيس الدبلوماسية الصينية وانغ يي "التوفيق بين طهران والرياض هو خير مثال على نجاح الجهود الصينية في تأمين "مبادرة الأمن العالمي". وأضاف قائلا: "إن الصين تؤيد دول الشرق الأوسط في رفض التدخل الخارجي". وهي غمزة عين واضحة تعني أن الغرب خطر على العرب، والصين هي الحل.
وحينما زار الرئيس الإيراني العاصمة الصينية في شهر مارس الحالي، استقبله الرئيس تشي بحفاوة غير مسبوقة، البساط الأحمر، وحرس الشرف الصيني، وإطلاق 21 طلقة ترحيبا به في العاصمة الصينية. لا يمكن أن يحدث هذا للرئيس الإيراني في واشنطن التي تحاول تكبيل إيران بكل الوسائل ضاربة بالقانون الدولي، والاتفاقيات السابقة مع طهران بصدد التسلح النووي، عرض الحائط.
واشنطون تتعثر والصين تنتهز الفرصة وتتقدم على حسابها. أمريكا تغرق في الحرب في أوكرانيا التي غزاها بوتين، والصين تحاول إقناع بوتين بأن حربه خاسرة وخسائره فادحة.
هل تمد الصين بوتين بالسلاح والمعونة؟ الإجابة بالنفي في غالب الأمر. الصين ترى في تلك الحرب مغامرة ذات تكلفة عالية لكل من موسكو وواشنطن. أما الصين فانها ترى ميدان صعودها العالمي ليس ميدان القتال، بل سوق التجارة والبضائع في سلام. وربما يدور خلد الصين: "عسى امم يخسر الطرفان روسيا وأمريكا.
كل التعليقات ( 0 )
أخبار ذات صلة