بواسطة
قراءة في قصة "صم بكم" للأستاذة الدكتورة ربيعة برقاق.
المشاعر النبيلة المتدفقة, والإحساس بأتعاب الآخرين من الأخلاق الكريمة والسريرة النقية الطيبة, تدفعنا للتأمل والتفكير والتمعن فيما حولنا, لنخرج من النافذة الضيقة لمشاكلنا و أتعابنا والروتين المزعج الذي يجعلنا ندور في دوامة كإعصار صيف صغير ينتقل من مكان لآخر فلا تحلو له الإقامة والتوقف إلا عندما تخور قواه, إلى الفضاء الشاسع لنحس برحمة الله وقدرته وإبداعه في خلق الكون, لنلج بكل حواسنا في معاناة الآخرين ونتقاسم معهم أفراحهم وأتراحهم وهمومهم.
الكاتب رحالة بخياله الشاسع, ينصهر في صمت مع الحروف والكلمات, يداعب المعاني ليجعل من أفكاره سهاما يطلقها بقوس واحد, ليترك لنا فرصة القراءة والإسقاط والاستنباط, لنخرج تلك الزبدة الفلسفية التائهة في أعماق المعاني والدلالات, لنعي ما يرمي إليه وما يريد أن يصل إلينا. إنها الإنسانية الفكرية التي نغترف منها لشحن كوامننا ونستلهم منها الدروس والعبر.
قصة "صم بكم" للأستاذة الدكتورة ربيعة برقاق, التي لاقت إهتماما كبيرا عالميا وترجمت إلى عدة لغات منها, الإنجليزية, الهندية, المالارمية, والردية الباكستانية, الفارسية الكردية والأمازيغية, ومازالت تصنع الحدث داخل الجزائر وخارجها, والتي استطاعت أن تزرع فيها رغم قصرها روحا سحرية بهالة مشعة جميلة تعدت الأجساد واخترقت الألباب, لتجعلها في ثورة روحية فكرية دائمة لا تموت بالتقادم ولا يقرب ساحتها الوهن ولا الشيخوخة , وهنا يكمن سرها الغريب المشحون بفن صناعة المعنى, الذي يعالج قضية اجتماعية إنسانية لفئة من المجتمع, هم منا ونحن منهم , إنهم ذوي الاحتياجات الخاصة ويكيف يعيشون.
لقد أبدعت الكاتبة في تصوير مشهد درامي جميل في معانيه ومراميه, صور ومشاهد فد تصبح في يوم ما مسرحية عالمية دسمة بمفارقات إيحائية كاملة متكاملة راقية, في مدها وتردداتها, إنها بناء لتصوير يرتكز على قراءة خاطئة لتقاسيم وجه أخلطت الأوراق, بنيت عليها شكوك وظن ليس في محله خلق فوضى ورعب, ورغم ذلك إنتهى بمشهد له أبعاد أخلاقية إنسانية رفيعة. أترككم مع القصة: "صم بكم
استفاقت على صوت بائع الخضر المتجول، تذكرتْ: آه، لم يعد هناك ما أعده للغداء.
نهضت بسرعة، دون أن تغسل وجهها، رمت بخمارها على رأسها وأسرعت نحو الباب.
آه نسيتُ النقود، أين المحفظة؟! ها هي هنا.
أخذتها في يدها، دفعت الباب وراءها، نزلت درج العمارة مسرعة، تذكرت أن الجيران في هذا الوقت نيام، والعمارة من الكارتون، يمكنك أن تستشعر ما يحدث داخل الشقق المغلقة. كل صرخة، كل أنة كل أف، كل شيء مكشوف من جدرانها المرهفة الحس.
انتبهت لحذائها المزعج، رفعت مؤخرة رجليها، ونزلت في هيئة لص.
في الدرج تعاقبت مع شاب غريب، لم تره من قبل، شيء مريب في ملامحه، رمى ببصره إلى يدها.
هذا الشاب ينوي على شيء، هو ينظر إلى محفظة النقود في يدي، لا شك أنه لص، فقد كثر اللصوص هذه الأيام، قالت في نفسها وهي ترقبه بمحيط نظرها.
تباطأت خطواته وهو يصعد السلم، توقف، استدار، شيء ما في جيب سرواله الخلفي، كأنه ينوي اللحاق بي!!.
تملكها الرعب، أسرعت في خطوها، وما إن خرجت من العمارة حتى انطلقت كأرنب مرعوب من مخالب صقر، ودون أن تفكر دخلت العمارة المقابلة، أين أفضل الجيران يستغرق وقتا كافيا لتشبع موتا كي يفتح الباب.
ما كادت تدخل حتى لمح طرفا من جلبابها، سار وراءها، كانت تصعد السلم، وصوت أنفاسها يتضخم في أذنيها من تسارع دورتها الدموية، نبض قلبها مثل طبل يدق ناقوس الخطر، وبكلتا يديها صارت تضرب باب الجيران، تكاد تكسره.
افتحوا الباب، افتحوا، افتحوا...
كان الزمن قد توقف، لا أحد يفتح، كأنهم صم بكم، استسلمت لقدرها، ظنت أنها النهاية.
كان الشاب واقفا وراءها وبيده مفاتيح بيتها، يشير إليها بحركات يديه، ويخبرها بلغة الإشارة، يا خالة هذه المفاتيح لك، وقعت منك في السلالم.
وحده الفهد الوردي الذي علقته في حامل المفاتيح، جعلها تستوعب ما حدث.
كان المسكين أصمَّ أبكمَ، لم يدرك ما أحدثه من صخب بداخلها، ولم يسمع ما أحدثته هي من ضجيج وفوضى في العمارة.
بيدها المرتجفة تناولت مفاتيحها، فقدت ركبتاها القدرة على حمل جسمها، فنزلت أرضا تحاول استرجاع توازن نبضها، وتفكيرها، وقد غادر الشاب البريء بكل هدوء.
أخيرا فتح أحد الجيران بابه ليطمئن.
ما خطبك أختاه؟!
بعد أن متُّ وعدتُ إلى الحياة، شكرا، لا شيء، عذرا على الازعاج.
خرجت وكان البائع المتجول قد غادر الحي وأهله موتى. "
بلخيري محمد الناصر
كل التعليقات ( 0 )
أخبار ذات صلة