بواسطة
لا تدري كيف تتواطأ الظروف، لتهدي حياتك أياماً سعيدة، تجعلك تعيشها كملك، لتذكرها فيما بعد كفردوس مفقود، لن تعود إليه أبداً، هذا الإحساس بالفقدان، هو قصة حياة الإنسان بعد هبوطه من الجنة، وهذا ما حصل معي أنا وعمي الأصغر، وكنا تلاميذاً في مدرسة القرية الفلسطينية الوادعة المستريحة على متن الجبل، في بيت جدي القديم حيث تركنا الجميع، والدي في المعسكر حيث تطول غيباته، ووالدتي في بيت أبيها، وعماتي تزوجن وغادرن بيت العائلة، والأعمام استقلوا بحياتهم الخاصة، عمي بحكم ظروفه، وأنا بحكم خياري وعشقي لهذه الحرية المطلقة عوضاً عن الالتحاق بوالدتي في بيت جدي والأوامر والنواهي التي لا تنتهي!
المشكلة الوحيدة كانت في توفير الطعام والشراب والذي كان والدي يعطينا ثمنه كل شهر تغطية للنفقات، وكان هذا لا بأس به حيث كانت علب السردين واللحمة التي نشتريها من دكان القرية كفيلة بالتغطية، أما المشكلة الكبرى فكانت في توفير احتياجاتنا اليومية من الخبز، فليس في القرية فرن ولا تستطيع أن تشتري من الفلاحين لأنهم يعتبرون ذلك عاراً، وكانت كبرياؤنا تمنعنا من أن نأخذ منهم بالمجان لأننا لسنا شحادين!
وذات صباح ثار جدل بيني وبين عمي، قال:
- أنت الأصغر والنساء يعاملنك كطفل فلا بأس أن تذهب وتطلب منهن الخبز
وكان ردي حاسماً وقاطعاً:
- أنا لست شحاداً!
وبدل أن يحتد ويرد علي أو يحاول إقناعي صمت عمي وأطال الصمت، مما أثار الريبة في قلبي: ترى ما الذي يفكر فيه، إذا أراد إجباري على أن أشحد الخبز فلن أشحد مهما كان الثمن.
نطق عمي فجأة موجهاً كلامه إلي وهو لا يزال شارد الذهن، وتبدو عليه علامات السهوم، ماذا قلت ؟ شحاد؟ ولماذا تكون شحاداً والشحاد موجود!
- أي شحاد يا عمي ومن سيقبل أن يشحد لنا؟
- لا.. لا لا احد يقوم بدور الشحاد إلا الشحاد نفسه، هل نسيت الشحاد الذي يأتي ليستريح عندنا تحت شجرة الرمان الكبيرة وارفة الظل، وهو عائد من جولته في القرية؟
- وماذا نفعل به، هل نطلب منه أن يعطينا دروساً في الشحدة؟
- ما لك يا ابن أخي لماذا أصبح مخك تخيناً هكذا؟
اسمع يا ابن أخي، أكثر غلة هذا الشحاد هي من الخبز الذي تجود به الفلاحات عن طيب خاطر!
- وما شأننا نحن بذلك؟
- ألم اقل لك إن مخك أصبح ثخيناً! ماذا سنفعل؟ سنشتريه منه، وسيطير من الفرح، فأفضل ما يفضله الشحادون هو النقود التي لا يجود بها عليهم أحد نظراً لشُحّها في أيدي الجميع، ويعطونهم عوضاً عن ذلك الخبز لأنه متوفر بكثرة، ثم يحتاس الشحاد ماذا يفعل بكل هذه الكمية من الخبز!
وهكذا ساومنا الشحاد والذي كما توقع عمي نطق وجهه بالفرحة وانفرجت أساريره على وسعها حين سمع بالشلن وحاول أن يبتزنا أكثر ولكن عمي كان حاسماً بخصوص السعر لا بل حاول ان يبتز هو الشحاد فقال له: شلن مع الكيس! واحتج الشحاد: من أين آتي لكم كل يوم بكيس؟
اقتنع عمي بحجته وانتهى الحوار!
وأصبحت أيامنا ترفل بالسعادة، ففي كل صباح حمص وفلافل وخبز طابون، هذه هي فاكهة الجنة.
يهز عمي رأسه في عجب:
- عجيبة هذه القرية! مطعم حمص وفول وفلافل ولا مخبز!
وأرد عليه منتهزاً الفرصة لأتعادل معه:
- مالك يا عمي! مخك تخين! من سيشتري الخبز في قرية الكل عنده طابونه الذي يخبز فيه!
زي اللي يبيع المية في حارة السقايين!
يبتسم عمي ونحن جالسين بانتظار حضور طلبية الديلفري وقد التقينا بعد كل تلك السنوات ويقول:
- هل تذكر أول ديلفري وصلنا!
- اي ديلفري يا عمي هذه هي المرة الأولى التي نطلب فيها معاً وجبة جاهزة!
يرفع عمي كفيه مستنكراً:
- مالك يا عمي! مخك تخين، نحن الذين اخترعنا الدليفري، ألا تذكر أول كيس خبز وصلنا ودفعنا ثمنه شلناً لموظف الديلفري: صاحبنا الشحّاد!
ونقهقه معاً ضاحكين! ونحن نستذكر في حسرة تلك الجنة التي تواطأت الظروف لإخراجنا منها.
نزار حسين راشد
كل التعليقات ( 0 )
أخبار ذات صلة