بواسطة
قصة قصيرة للفنان محمد الجالوس
انزلق الشلن من بين أصابعه وهو الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره، هبطت القطعة المعدنية الفضية هكذا بسرعة البرق، وأنا أراقب بدقة، صوت ارتطامها بالأرضية الصلبة ، أمام بقالة العم أحمد .
وحدي من حدد بالضبط مكان الارتطام، وكنت متأكداً أنها شلن، فقد لمعت أمام عيني بوضوح، ولم تبقَ في مكانها، بل دارت حول نفسها بسرعة وانطلقت إلى مكان آخر، بعيد.
عيني، ظلت تتابعها، والطفل الصغير لم يكن بمقدورة أن يبحث عنها، فهو ممسك ببقية الدينار الذي صرفه وحوله لقطع نقدية كثيرة، الطفل يدقق بعينيه في مكان الارتطام دون جدوى، ثم ينشغل بالأصوات العالية، التي يطلقها صاحب الدكان.
لقد حذر الطفل وهو يضع بين يديه كمية (الفراطة) ووجهه الى طريقة حملها جيداً.
ولكن هذا ما حدث.
قطعة واحدة، استقرت على بعد ثلاثة أمتار من بوابة الدكان، ووحدي من حدد مكانها.
كان إلى جانبي سمير ابن عمي، والذي يكبرني بأعوام ثلاثة أو أقل بقليل.
- شفتها، همس لي وأنا أشير برأسي، أن نعم.
خطوت بضع خطوات باتجاه القطعة النقدية، والطفل ما زال يبحث عنها في مكان آخر، إنه متماسك ويبحث بهدوء أثار إعجابي.
وقفت بجانب القطعة ثم مددت ساقي وحذائي البلاستيكي فوقها تماماً، لقد أطبقت عليها، ولم يعد من الممكن استعادتها الآن.
الطفل مهموم بعقاب والده , رغم ما يبدي من تماسك , فقد أرسله هذا الصباح (( لفك )) الدينار وصاحب الدكان يعيد السؤال على مسمع الطفل .
- سقط منك إشي، عد يا بني، ممكن تكون (تزاولت) .
- آه ، نزلت هون ، بس مش عارف وين .
يجيب الطفل وانا أتبادل النظرات مع سمير، غير مدركين لا أنا ولا هو، حدود العقاب الذي ينتظر الطفل، فهو أصغر منا كما يبدو ، وربما في الصف الابتدائي الأول .
تعب الطفل وهو يحمل بين كفيه ، بقية القطع ، ويبدو أنه فقد الأمل بالعثور على القطعة المفقودة
- بعوض الله .
قال سمير ورددت من بعده نفس العبارة.
في هذه الأثناء كان الرجل صاحب الدكان ، قد غادر البوابة ، وانشغل بمشترين جدد .
بسرعة البرق ، هبطت يدي إلى قطعة الشلن ووضعتها في جيبي ، وكنت خلال هذه الثواني القليلة ، أنظر في كل الاتجاهات ، لعل أحدهم قد لاحظ .
غادر الطفل باكياً ، الشلن ضاع بلا رجعة ، وهو يعني مبلغاً لا يستهان به من أجرة عامل ليوم واحد ، وبضعة قطع من حجمه تعني وليمه مشبعة ، لعائلة بكاملها .
تسللت أنا وسمير من المكان ، وقررنا أن نشتري ما نأكله بهذه القروش الخمسة ، , قطعة من (( الحلاوة الطحينة )) ورغيفين من الخبز, ولعدة أيام قادمة .
هي دقائق وإذا بوالد الطفل قد عاد للبحث مع ابنه ، كان يبحث في المكان الذي هبطت به قطعة الشلن , ثم قدر بخبرته , أنها ابتعدت قليلاً , ليقف في نفس الموقع الذي استقرت فيه .
كنا أنا وابن عمي نراقب من بعيد ، للحظة قررنا أن نعيد الشلن إلى أصحابه ، غير أن ابن عمي قال : ومن أين سنأكل ، ثم إننا سنتحول من أمناء إلى لصوص بمجرد إعادة الشلن .
- لا إنها فكره غير مناسبة .
قلت , ومضينا من المكان ، دون أن نلتفت ، فربما بسبب العقاب المؤجل للطفل ، نعترف بما فعلناه او نضعف أمام الاب الذي بدا تأثره واضحاً لفقدان القطعة .
كل هذه التفاصيل ، استعدتها كشريط سريع وأنا في أتون عودتي المتأخرة لحارتنا القديمة ، كنت حريصاً على أن أزور مدرستي في المخيم ، وساحة اللعب وسوق الخضار ، أماكن الطفولة التي بدت لي بعيدة .
سأتوقف هنا , قلت , وأنا في مواجهة دكان العم أحمد ، اتجهت بنظري إليه , لقد تحول بفعل السنوات الطويلة إلى رجل مسن في السبعينات ، شاربه الأبيض الكث وشعره الذي تلاشى حتى أطراف أذنيه، دقق فيَّ الرجل دون أن يعرف من أنا ، سنوات مضت ، شاهدت فيها اليوم , ما لم أكن أشاهده من قبل .
شوارع المخيم بدت لي ضيقة ، شاحبة ، مكتظة بالعربات والباعة على الرصيف وفي منتصف الشارع .
حنفية الماء ، اختفت وحل مكانها بيت إسمنتي بجدران صفراء .
هنا لعبنا ، وهنا تلطخت ملابسنا بالطين ، الرجل لم يعرفني وكذلك أنا ، فهو غير الذي شهد أيامنا الأولى ، ونحن ما دون العاشرة ،
- يا عم أحمد ، أريد أن أعيد لك الشلن . قلت واستمع الرجل .
- أي شلن ؟؟
- الشلن الذي سقط قبل سنوات طويلة من يد الطفل ، والتقطته أنا ، أريد أن أعيده , أرجوك , وبالقيمة التي تحددها .
الرجل ساهم فيما أقول ، ولايتذكر من الحادثة أي شيْ .
تغيرت البيوت ، والشوراع ، والسكان ، ولم يعد هنا كل من أعرفهم أو عرفوني ، سوى الرجل المسن صاحب الدكان ، وعليَّ الآن أن أبرئ ذمتي من الشلن .
- يا عمي مسامح دنيا وآخرة ، ثم إنني لست صاحب الشلن ، وأنت تتحدث عن سنوات قديمة مضت , قال لي وهو يهم بدخول الدكان .
غادرت المكان وسط حيرة الرجل المسن ، فقد اعترى وجهه النحيل ، فضول غامر ، وأسئلة معلقة ، حول قصة الشلن .
في زاوية الحارة، كان هناك ثلاثة اطفال يلعبون، واحدهم كان يقبض على رغيف صغير، وفي يده الأخرى قطعة من الجبن الأصفر .
اقتربت منهم ، وطلبت قضمة واحدة من رغيف الطفل .
- تفضل عمو , أجابني مبتسما"
امتدت يدي إلى رغيف الخبز
تناولت قطعة منه وطعم الحلاوة الطحينية، ما زال عالقاً فمي.
أخبار ذات صلة
كل التعليقات ( 0 )