Alhawadeth Archive
كان المطر ينحدر شديداً في شوارع نابلس،يوم قررت أن أذهب إلى الحلاق بصحبة أخي الكبير ورفضت التأجيل رغم استبساله في إقناعي،طلب الحلاق شلناً على الحلقة الإنجليزية وحينها طلب لي أخي النهوض من على الكرسي واتهم الحلاق بالاستغلال،كونه أدرك أننا غرباء عن البلد،إلا أن الحلاق ابتسم بدماثة وردّ مداعباً:
- شيء طببعي يا ابني..ليش إنت زعلان؟ إذا لم نستغل الغريب فمن سنستغل إذن؟
المهم أنني رفضت النهوض واخرجت الشلن من جيبي وناولته للحلاق مقدماً حتى أكمل حلاقتي ولا أترك لأخي مجالاً لمزيدٍ من الجدل والمساومة، لم يتمالك الحلّاق من الضحك وعلّق مداعباً:
- شفت زغير وعاقل. أعقل من الكبار!
وهو يقصد أخي طبعاً بهذا التعريض!
فعل الشلن فعل السحر وخرجتُ بحلاقة متقنة وأمسك الحلاق المرآة باحترام قبالة خلفية رأسي ليطمأنني على جمال الحلقة وهو لا يفعل ذلك مع الأطفال في العادة إلا لتملق والديهم الذين يأتون برفقتهم.
المهم أن اخي كظم غيظه وانتظر حتى خرجنا وأصبحنا على مسافة كافية من دكان الحلاق وحينها نطق بما يحيك في نفسه بلهجة من يزودني بمعلومة أو يحذرني من خديعة:
- أهل المدن هؤلاء وبالذات النوابلسة يعتبروننا فلاحين مغفلين ويستغلوننا، ليس فقط الحلاقون بل أصحاب محلات الكنافة أيضاً، الكنّافون لا يستطيعون رفع السعر فيغشون في الحشوة، لأنهم لو غشوا القشرة سيكشف أمرهم وإذا رفعوا السعر فلن يشتري منهم أحد.
كنت فرحاً بحلاقتي الأنيقة وانطلقت أتقافز بمرحٍ تحت خيوط المطر الذي خفت حدته ومسّ فروة رأسي مسّاً خفيفاً متسرّباً برفق من بين خصلات الشعر، ولم ألقِ بالاً لما كان يهذر به أخي.
بعد سنوات وسنوات وحين صرّحت أني سأتقدم لخطبة فتاة نابلسية أسرتني جاذبيتها تصدى لي أخي مرّة أخرى:
- احذر! النابلسية، هي الرجل في البيت هي التي تصدر الأوامر وما عليك إلا السمع والطاعة!
ورددت على أخي ساخراً:
- والله بتريحني يا رجل... بتشيل عني خلي الواحد يرتاح في حياته شوي!
وذكّرتُ أخي كيف أننا حين عدنا إلى البلد وذهبنا للحلاقة في الصالون الأنيق الذي افتتحه ابن عم لنا في القرية، طلب اجرة الحلاقة شلناً، وحين احتج أخي كعادته وذكرّه بأن الحلاقة بقرش ونصف هنا في القرية، قهقه باسم ضاحكاً وقال:
- صحيح عند أبو فالح لأنه ما عنده بخّاخ فيستعمل فمه، و بدل ما يرشلك مي ببخبخ على راسك!
وواصل قهقهته!
حين نجلس أنا وأخي الكبير ونحاول جمع شظايا الصور من عهدة تلك الأيام يبدأ حديثنا ولا ينتهي حتى يخيم علينا الصمت وحسرة الفقدان والأماني التي لا تزال معلّقة على حبال الأيام، بالعودة يوماً لحضن الأوطان.
نزار حسين راشد
كل التعليقات ( 0 )
أخبار ذات صلة