في القدس 'عشب على حجر.. وخوف الغزاة من الذكريات'
تاريخ النشر 30 Aug 2022

Alhawadeth Archive

 

 

قبل خمسة آلاف سنة مهدها العرب اليبوسيون منطلقا للتواصل مع السماء، فهي مدينة الإله شاليم أحد آله الكنعانيين، ثم سكن فيها أو جاورها أو مر فيها 'عليهم السلام جميعا ' إبراهيم وايوب وداوود وسليمان وغيرهم من الأنبياء (والله اعلم في صدق الرواية.. فأنا اميل لرواية المؤرخين الذين يقولون ان مملكة النبي سليمان اقيمت في اليمن وليس فلسطين) ثم قام عيسى عليه السلام من مرقده وصعد إلى السماء من كنيسة القيامة، وعرج خاتم الأنبياء محمد (ص) الى السموات من فوق صخور القدس.

كم هذه المدينة في جوفها من ملاحم وروايات وسرد في التاريخ؟!، الماشي في القدس ومنعرجاتها وسلالمها تدب قدماه على الطرقات الحجرية فتهتز المفاصل بذبذبات صرير عجلات عربات خيل الجند الراحلين عنها. وعندما يرنو المرء الى عقود سقوفها وقناطرها ويتحسس حجارة أبنيتها، يروي له كل حجر فيها حكايته، فمنهم من يروي قصة الملك أخناتون الفرعوني وآخر يتحدث عن الملك البابلي نبوخذ نصر وآخر يروي عن الإسكندر الأكبر وهادريان والخليفة عمر بن الخطاب وريتشارد قلب الأسد، وصلاح الدين ثم بطولات شباب ونساء القدس التي لا تنتهي..

حدثني أحد الأحفاد المغتربين، والمولدين في الشتات، والذي يسعى جاهدا للحصول على تصريح للإقامة في موطنه الأصلي، عن زيارته لجده المقيم في القدس، وأنه سأله عن كيفية بناء أبنية الحجر القديمة في القدس، في ظل عدم وجود مادة الأسمنت قديما، فقال له الجد المقدسي: 'كنا نقلع الصخور ونشويها في أتونات عالية الحرارة حتى تصبح شيد (الجير) ثم نطفئه بماء بئر أيوب، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾، أو ماء نبع سلوان أو ماء نبع بلدة لفتا فكلها مياه مباركة، فقد بارك الله في القدس واكنافها، ثم نخلطه بالماء وزيت الزيتون فتصبح الخلطة مادة تركيب أقوى من الإسمنت لبناء الحجر'. ويضيف الجد 'هل تعلم ان زيتون القدس لا ينخره الدود؟' مسترسلا ومجيبا على سؤاله 'لانه مبارك'. ويقول الحفيد كنت أتطلع الى جدي وهو يتحدث وأسترق النظر إلى وجه جدتي وأتمعن في التنوع الهائل في أشكال أهلي المقدسيين. عينا جدتي سوداوان وقسمات وجهها وأنفها تأخذك الى عوالم البادية العربية في حين، أن عيني جدي زرقاوان وبشرته بيضاء تجعلك تخاله أنه أحد سكان ضفاف نهر الراين في اروبا. وتساءل الحفيد 'عجبا كم هذان الكهلان الضاربان في عمق تاريخ بيت المقدس فيهما من التنوع المذهل ؟'.

نعم، كانت جحافل الغزاة تمر في هذه المدينة على مر التاريخ فتغير اسمها من يبوس الى شاليم ثم أُورشليم وإيليا وجروساليم وبيت المقدس والقدس،  وقطعا هؤلاء يؤثرون في سكانها وثقافاتهم فتتشكل فيها المعتقدات وخاصة السماوية منها، ويزرع بعضهم شيئا من جيناتهم فيها، إلا أن أهلها يصمدون ويبنون بيوتها ومؤسساتها وطرقاتها والغزاة أبدا يرحلون. فما أن تنتهي مرحلة من مراحل الإعتداء والإحتلال حتى يعود أهلها لمواصلة الحياة ومسح غبار سنابك خيل الغزاة عن حجارة المدينة، وتنظيف ساحات الصلوات من روث دوابهم، ونفث البخور وإعادة التواصل مع السماء.

في هذه المرحلة من مراحل الغزو، وعلى الرغم من مرور قرن من الزمن عبثت فيه جنازير دبابات وجرافات الغزو الاستعماري البريطاني والصهيوني الأوربي بالساحات المقدسة، وعملت على ترحيل أهل فلسطين منها ومن القدس الغربية (أراضي لفتا ودير ياسين وعين كارم..) واستزرعت فيها الفقراء من يهود شعوب أوروبا، إلا أن كثير من أهلها في القدس الشرقية تحصنوا في قلاعها وصمدوا وكانوا غير قابلين للإقتلاع.

هؤلاء الفلسطينيون عددهم يقترب من 350 الف فلسطيني عربي يحمون أرضهم وبلادهم وإرثهم ومقدّس المسلمين والمسيحيين بأجسادهم على الرغم من عمليات التهجير القسري والمنهجي. هؤلاء 350 ألف إرادة صلبة يشكلون الأرض المالحة العصية على الإستزراع الشيطاني، ولكنهم أيضا بشر يناضلون للحصول على لقمة العيش هناك بالرغم من التمييز العنصري والإذلال الذي يمارسه الإحتلال وبالرغم من تدمير منازلهم ومصالحهم الاقتصادية.

وإذا كان العرب والمسلمون والمسيحيون وحتى اليهود الذين لم يتصهينوا، حريصين على القدس وما تمثله من إرث إنساني وحريصين على العدالة وحقوق الانسان، فان عليهم تمكين أهل بيت المقدس من الحصول على لقمة العيش بكرامة، واستقطاب الكفاءات وعدم رحيل الشباب الباحثين عن العمل.

يشكل اهل القدس العرب 37% تقريبا من سكان القدس، وتشير إحصاءات معهد القدس لدراسات إسرائيل «أن 80% من الفلسطينيين في الشطر الشرقي تحت خط الفقر!! مقابل 28% (إسرائيليين) في الشطر الغربي، وأن 69% من عمال البناء في المناطق المأهولة باليهود في القدس اليوم هم فلسطينيون من الشطر الشرقي.، 55% من عمال المواصلات العامة والبريد والمخازن فلسطينيون. ويشكل الفلسطينيون 42 % من العاملين في مرافق الخدمات والإسناد والإدارة والمطاعم والفندقة في الشطر الغربي.

للحفاظ على القدس من التهويد ومن تغيير بنيتها التاريخية والثقافية والحضارية والانسانية، المطلوب من المستثمرين العرب والفلسطينيين إقامة مشاريع اقتصادية بالاشتراك مع سكان القدس ورام الله وبيت لحم ونابلس؟ وهذا أيضا ينطبق على الدول الخليجية ذات الفائض المالي الفلكي، تستطيع قطر أن تشارك أهل الخليل في صناعة الأحذية وكرات قدم المونديال القادم فيها، فهم مهرة في هذه المهنة، وتستطيع هذه الدول أن تشارك أهل القدس وبيت لحم في بناء المجمعات السياحية فسكانها مهرة أيضا، ان مجالات الإستثمار هناك غير محدودة في كافة المجالات.

ان جوهر الأمور في فلسطين يتلخص في بقاء الفلسطيني على الأرض، وهو ما يؤدي الى افشال استراتيجية الصهيونية ومن وراءها قوى الإمبريالية الجديدة في إنجاز إسرائيل كدولة امبريالية قوية في منطقة فاشلة تدب فيها الفوضى، والركن الأساسي في إنجاز هذا الكيان يستند على عمليات التفريغ والإحلال (ترحيل العرب واستزراع الصهاينة في فلسطين) .

هناك في القدس واكنافها شعب حي يصمد ويحرس المقدسات ويضحي ويصنع الامل،الى الحد الذي جعل الشاعر الكبير محمود درويش يقول  'على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. هتافات شعب لمن يصعدون الى حتفهم باسمين.. عشب على حجر.. وخوف الغزاة من الذكريات'.



كل التعليقات ( 0 )

أخبار ذات صلة

المزيد من الأخبار

جميع الحقوق محفوظة © 2023 الحوادث
طورت بواسطة : Zahid Raju