من المؤكد أن الرئيس الأمريكي(دونالد ترامب) قد أثار الحنق والغضب لدى غالبية قادة العالم المجتمعين ـ افتراضيا ـ في الدورة الـ(الخامسة والسبعين) لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في (نيويورك) والتي انعقدت في الثاني والعشرين من سبتمبر الجاري، وذلك بدلا من الضحك والسخرية التي قوبل بها حديثه عندما قال خلال كلمته في اجتماعات الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة "إن إدارته حققت نجاحات لم تحققها أي إدارة أمريكية سابقة خلال عامين فقط"، هذا على الرغم من أنه خلال هذه الدورة قد أعاد الكرّة وقال"إنه بنى أعظم اقتصاد شهده العالم خلال ثلاث سنوات من حكمه"...
مصدر الحنق والغضب في الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي في خطابه القصيرـ خلافا لعادته في عمليات التهريج التي يعشقها ـ يزخر بالمغالطات ويهيّج الشعور القومي الأمريكي والعدائية تجاه الآخرين، ويضع العالم في أجواء الصراع والحرب الباردة .
لقد وصف مواجهة جائحة (كوفيد -19)، التي ألمّت بالعالم، بأنها "حرب مفتوحة على عدو خفي" مردداً تسميته بـ"الفيروس الصيني". وألقى الرئيس الأمريكي باللوم على الصين ومنظمة الصحة العالمية في انتشار الفيروس. ودعا إلى تحميل الصين مسئولية الوباء و"محاسبتها" عليه. تحدث (ترامب) عن تسخير إمكانيات الولايات المتحدة لمحاربة الفيروس وأسهب في وصف إجراءاته والنجاحات التي أُحرزت، ومن ذلك: توفير العلاجات ،والوعد بإنتاج اللقاحات..إلخ.
لكن للأسف، وكما يقول المثل: "الماء يُكذّب الغطَّاس"؛ فأثناء بث خطابه الافتراضي وصل عدّاد الموت في أمريكا جراء الوباء إلى مئتى ألف، وتبوأت الولايات المتحدة المركز الأول في عدد الوفيات والإصابات، عدا ما خلّفته من أزمات اقتصادية وبطالة لعشرات الملاين من العمال. وإذا ما قورنت نتائج إدارة (ترامب) في معالجة الوباء بما حصل في الصين، المتهمة، والتي انتشر فيها الوباء أولاً، وعدد سكانها خمسة أضعاف الولايات المتحدة، فإن حالات الوفاة لم تتجاوز الخمسة آلاف حالة، كما تُظهر إحصاءات جامعة (جونز هوبكنز)، كذلك المؤشرات الاقتصادية تظهر انخفاضا في الناتج القومي الصيني بنسبة 15% مقابل 24% لدى الولايات المتحدة. وإذا نظرنا إلى الدول الأوروبية والآسيوية، فبإجراءاتها الصحيّة تُسيطر الآن على الوباء. بينما في الولايات المتحدة إدارة فيدرالية، ولأكثر من ثمانية أشهر، لا زالت تتجاهل المعلومات الصحية ولا تحترم العلم، ويُقيم الأرعن الذي على رأسها مهرجانات انتخابية لا تراعي إجراءات التباعد الاجتماعي التي يحث عليها علماؤه.
الحقيقة في هذا الشأن، أن ترامب وحزبه الجمهوري الآن يسابقون الريح، هرباً للأمام، للفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الثالث من نوفمبر القادم. وعليه، يقوم (ترامب) بتسديد رمحه نحو الأمم المتحدة والصين وتحميلهم المسؤولية للتهرب من نتائج استهتاره واستهتار إدارته بأرواح الأمريكيين، والفشل في حمايتهم.
عزف ترامب، في خطابه، على نغمات المحافظين في وقوفه مع الحريات الدينية ومحاربة الاتجار بالبشر وحماية الأولاد قبل ولادتهم (عدم الإجهاض)، وأضاف على ذلك تجميلا لموقف المحافظين وقوفه مع حرية المرأة وحرية المثليين.
لكنه عندما تحدث عن الأطفال قبل الولادة، تناسى أنه نزع الأطفال الأمريكيين من حضن أمهاتهم المهاجرات، ووضعهم في معازل. وعند حديثه عن الحريات الدينية، اعتقد أن الناس نسوا أنه محركٌ رئيسيٌ للكراهية ولـ(الإسلاموفوبيا). في خطابه لم يأتِ ولو بكلمة عن حياة السود غير المعتبرة في الولايات المتحدة، ولم يتحدث عن قيامه بتغذية الانقسام والاستقطاب الحاد في المجتمع الأمريكي الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية.
في خطابه كرر (ترامب) أن الولايات المتحدة صاحبة أضخم اقتصاد، وأنها أكبر منتج للغاز، وجيشها الأقوى في العالم، وأضاف أنه صرف 2.5 ترليون دولار على الجيش الأمريكي خلال أربع سنوات، الذي، أنتج ـ حسب وصفه ـ "أسلحة لم نكن نتخيلها".
في ذلك، لم يأتِ (ترامب) بجديد؛ فكافة الإدارات الأمريكية السابقة ـ جمهورية كانت أو ديمقراطية ـ تصرف الترليونات على الجيش وعلى إنتاج الأسلحة، أما إنتاج الغاز والبترول، فقد تعاظم أيام الرئيس السابق (أوباما). إلا أن (دونالد ترامب)، في التكرار، ينسب ذلك لنفسه وكأنه البطل والعبقري المخترع.
طبعا مقولاته الشعبوية هذه، يدغدغ بها مشاعر التفوق لدى القوميين البيض. وعملياً ما يجير له هو ربط هذه القدرة والإمكانيات الضخمة للدولة الأعظم في العالم بإجراءات العزلة ووقف التعاون الدولي، كالانسحاب أثناء الجائحة من منظمة الصحة العالمية، والانفراد بالمقدرات الكونية تحت المقولات التي رددها في خطابه "أميركا أولاً" ومقولة "عندما تهتم بمواطنيك ستجد الأساس السليم للتعاون" . بينما هو بذلك يجر العالم إلى زمن النظام العالمي قبل تأسيس الأمم المتحدة القائم على "الدول الاستعمارية القوية"، واضعاً البشرية على حافة خطر الحرب الكونية مرة أخرى.
أما عن السياسات الخارجية فلم يجد إلا بلدان الشرق الأوسط ليسرد نجاحاته فيها، بتمزيق الاتفاق النووي الإيراني، وقتل (البغدادي) ،وقتل (سليماني)، وجر (محمد بن زايد) وملك البحرين للتطبيع مع (إسرائيل). وبذلك هو يوقف "سيلان الدماء في رمال الصحراء" حسب قوله، وبموجب رأيه في أن القوة العسكرية الأمريكية تصنع السلام.
إن أفضل ما يصف هذه العبارات، هو أنها تُرّهات تُسعد قاعدة ترامب الانتخابية الممثلة بالإنجيليين، أما على الصعيد العملي، فليست هي إلا استمرارٌ للسياسات الإمبريالية التي أدت الى الدمار والخراب وموت ملايين البشر في الشرق الأوسط.
( ترامب) في خطابه هذا، خاطب قاعدته الانتخابية قبل مخاطبة العالم، ظاناً أن ذلك سيزيد من فرصه بالنجاح في الانتخابات القادمة، وأنه سيرد الفيروس القاتل إلى الصين، لكن هيهات، فقد سبق السيف العَذَل.