في التاريخ هناك محطات زمنية تكثف فيها الوجود بفعل حدث فارق، وذلك بما سيؤديه من سلسلة من التاثيرات والتحولات التاريخية. معركة الكرامة كانت أحد المحطات التاريخية في الصراع التحرري العربي مقابل الاستعماري الصهيوني، على الرغم من كونها معركة صغيرة الحجم.
بعد 9 اشهر من هزيمة الجيوش العربية (الأردني والسوري والمصري) في حزيران 1967 واحتلال القوات الإسرائيلية للجولان السوري وسيناء المصرية وغزة الخاضعة لحكم الدولة المصرية والـضفة الغربية التي كانت موحدة وجزء من الدولة الأردنية، نشطت في الاردن وفي مناطق التواجد الفلسطيني في سوريا ولبنان، تنظيمات تتبنى الكفاح الشعبي المسلح (ميلشيات مسلحة)، والذي اطلق عليه العمل الفدائي، و قد تبنته حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وبدأت تتموضع مجموعات من الفدائيين في المناطق المحيطة بفلسطين وخاصة في غور الأردن، واحد مواقع الفدائيين كان قرب قرية الكرامة التي يقع فيها مخيم الكرامة لنازحي حرب 1967. هذه المجموعات كانت تتسلل خلف خطوط العدو للقيام بعمليات استطلاع وعمليات عسكرية.
أدت العمليات الفدائية في معظم الحالات إلى ردود عسكرية إسرائيلية بقصف مواقع الفدائيين، الا انه في صباح يوم 21 آذار 1968 شن الجيش الإسرائيلي حربا على الاردن لاحتلال الغور الشرقي لنهر الأردن والمرتفعات المحيطة به، فعبرت قواته النهر من عدة محاور تحت غطاء جوي كثيف. تصدت له قوات الجيش الأردني و مجموعات الفدائيين الفلسطينيين على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن إلى جنوب البحر الميت، وفي قرية الكرامة ومخيمها اشتبك الفدائيون والقوات المسلحة الأردنية والمواطنون في قتال شرس وبالسلاح الأبيض ضد قوات الجيش الإسرائيلي. وفي قتال استمر أكثر من 16 ساعة تمكن الجيش الأردني والفدائيون من الانتصار على القوات الإسرائيلية ودحرهم من أرض المعركة مخلفين ورائهم الآليات والقتلى.

خسرت إسرائيل في هذه المعركة 1200 قتيل وجريح صهيوني و400 الية مدمرة حسب اقوال الفريق أول مشهور حديثة الجازي، بالمقابل كان عدد قتلى الجيش الاردني 86 شهيدا و108 جريحا واستشهد 95 فدائي وجرح 200 وتدمير 13 دبابة و39 الية للجيش الأردن، اضافة لتدمير بلدة الكرامة التي استشهد فيها جميع الفدائيين اللذين استماتوا دفاعا عن ثرى الاردن في بلدة الكرامة.

بطل المعركة الذي ترفع له القبعات هو المرحوم الفريق أول مشهور حديثة الجازي قائد معركة الكرامة في الجيش الأردني، وننشر هنا المقابلة التي اجراها معه ماجد عبد الهادي بتاريخ 3 نيسان 1995 - صحيفة المحرر الباريسية:
" المحرر " قبل الدخول في سرد ذكرياتكم عن معركة الكرامة، ما هي برأيكم الأسباب التي أدت إلى نشوبها في ذلك الحين؟
مشهور حديثه: دعني أشير في البداية إلى أن معركة الكرامة جاءت بعد مرور اقل من عشرة اشهر على هزيمة حزيران 1967 حيث كانت المنطقة كلها تعيش هاجس الحديث عن فلول الانسحابات غير المنظمة للجيوش العربية من جبهات القتال مع إسرائيل، وكانت روح الهزيمة وفقدان الثقة بالنفس تسيطر على الجنود والضباط والمواطنين على حد سواء.
في ذلك الوقت أسندت إلي مهمة إعادة تنظيم القوات الأردنية المتراجعة من الضفة العربية، وقد عملت خلال عشرة اشهر بجهد متواصل من اجل أن يستعيد الجندي ثقته بنفسه وبوطنه, وهو ما كان له اكبر الأثر في الصمود أثناء المعركة.
أما فيما يتعلق بأسباب الهجوم الإسرائيلي، فهي كما اعتقد ثلاثة أسباب :
الأول : معاقبة الأردن على احتضانه للعمل الفدائي الفلسطيني وقيامه بإسناد الفدائيين الفلسطينيين في اشتباكاتهم مع الجيش الإسرائيلي على طول الجبهة الأردنية.
الثاني : إنهاء العمل الفدائي الفلسطيني، واعتقاد موشي دايان بأن هذه مهمة سهلة لن تحتاج إلا لساعات معدودة.
الثالث : احتلال مرتفعات السلط وتحويلها إلى حزام أمنى لإسرائيل تماما كما حدث بعد ذلك في جنوب لبنان.
وكيف دارت مجريات المعركة ؟
أول بلاغ لي عن هجوم الجيش الإسرائيلي كان في الخامس صباحا حيث اتصل بي الضابط المناوب ، ليقول أن أول دبابة إسرائيلية تقطع الجسر الان، فقمت من فوري واستبقت شروق الشمس بأن أديت فريضة الصلاة، ثم أصدرت أوامري بحشد القوات والتنسيق الكامل مع الفدائيين الفلسطينيين, وكذلك مع المواطنين سكان المنطقة الذين كنا قد زودناهم بأسلحة مضادة للدروع، فالتحم الجندي مع الفدائي مع المزارع، وسالت الدماء الأردنية والفلسطينية في وادي الأردن الأخضر دفاعا عن تراب الوطن. وكان قراري بأن يكون الضباط في المقدمة، وان لا خيار لنا بالتراجع إلى الخلف مهما كان السبب، حتى لو وصلت المعركة إلى الالتحام يداً بيد.
من جهتهم كان الإسرائيليون يعتقدون بعدم وجود أي التزام بالقتال لدينا بعد انتصارهم في حرب حزيران 1967، وقد بلغت الغطرسة بوزير الحرب الإسرائيلي آنذاك موشي دايان حد جمع الصحفيين في أريحا، ودعوتهم مسبقا ليشربوا الشاي معه في مساء ذلك اليوم على مرتفعات السلط، ولكن سرعان ما فوجئ بخطأ حساباته، وعاد ليبلغ الصحفيين في المساء بأن الدعوة تأجلت حتى إشعار آخر.
لقد صمدت القوات الأردنية والفلسطينية صمودا رائعا في وجه الغارات الإسرائيلية التي لم يسبق أن واجهنا مثيلا لها من قبل، إضافة إلى كثافة نيران المدفعية وكثافة الدروع المهاجمة، ورغم أننا كنا نفتقر إلى أي غطاء جوي، إلا أن صمود الجندي والقائد معا جعل الإسرائيليين يتراجعون لأول مرة، ويطلبون وقف إطلاق النار بعد مرور 18 ساعة على بدء المعركة.
هل استطاع الجيش الإسرائيلي الدخول فعلا إلى الكرامة ؟
نعم دخلوا الكرامة ، واشتبك الجنود والفدائيون معهم بالسلاح الأبيض، ولكن المعركة لم تكن سهلة عليهم، ولم يستطيعوا تحقيق هدف استئصال الحركة الفدائية الفلسطينية وضرب القوات المسلحة الأردنية.
وهنا أقول بكل فخر، أنني استطعت تجاوز الخلاف الذي كان ناشئا آنذاك بين الفدائيين والسلطة الأردنية، فقاتل الطرفان جنبا إلى جنب، وكقوة موحدة تحت شعار : كل البنادق ضد إسرائيل، فكانت النتيجة والحمد لله مشرفة، واذكر في ذلك اليوم أن وزير الدفاع السوفياتي عزوسيف كان في زيارة إلى دمشق فأرسل لنا برقية تهنئة على صمودنا المثالي ضد الهجمة الإسرائيلية.
لنعد إلى تفاصيل المعركة, وتحديدا إلى التنسيق مع المقاومة الفلسطينية: من تذكر من الذين أجريب معهم التنسيق في ذلك الحين وكيف كان شكل هذا التنسيق على الأرض؟
اذكر أبو عمار شخصيا، وكذلك المرحوم أبو صبري، وقادة المواقع الفلسطينية في محور الكرامة ومحور الشونة بشكل خاص. كان هناك تنسيق على كل الجبهات ، وقد أصدرت تعليماتي بأن يتم التنسيق بين الجيش وبين قوات العمل الفدائي في كل المواقع الأخرى، إيمانا منى بأن المعركة حاسمة ضد هذه الأمة كلها.
هل تعتقد أن نجاحكم في الصمود والمواجهة كان له أسباب سياسية إضافة إلى ما ذكرت من أسباب عسكرية؟
السياسة لم يكن لها أي دور في هذه المعركة، والتي كانت بين قوة مهاجمة وقوة مدافعة، وكان قرارنا فيها الصمود والانتصار بأي ثمن، فقاتل الجميع من ضباط وجنود وفدائيين جنبا إلى جنب ، واستشهد عدد كبير من الضباط، وهذا مخالف لما يحدث عادة حيث تكون أغلبية الشهداء من الجنود، أما سببه فيعود إلى القرار بأن يكون الضباط في المقدمة مع الجنود. ويخطر لي هنا نادرة حدثت أثناء المعركة، وملخصها أن اللواء كاسب الجازي، وهو ابن عمي ، اتصل بي فلاحظت انه يتحدث بصوت منخفض، وسألته من أين تتكلم، فقال: من الخندق الأمامي القريب إلى المدرسة، وهو أول خندق على النهر ، فقدم بذلك مثالا على صمود القادة، رغم أن الأوامر كانت تعطيه الحق بالتراجع عن هذه المنطقة.
وكيف حدث وقف إطلاق النار ؟
لقد تلقيت اتصالا من القيادة يقول لي أن إسرائيل تطلب وقف إطلاق النار. وبأمانة أقول لك أيضا أنني واصلت رغم ذلك قصف تجمعات الجيش الإسرائيلي حتى خرجوا من المعركة.
هل تعنى انك لم تلتزم بوقف إطلاق النار؟
لا لم التزم.
وماذا بالنسبة للإسرائيليين؟
لقد التزموا وتوقف الطيران عن قصف مواقعنا.
وهل كنتم تقصفون تجمعات الجيش الإسرائيلي على الأراضي الأردنية فحسب، ام داخل فلسطين أيضا؟
كنا نقصف المحاور حيث ينقلون آلياتهم. وكذلك المراكز الرئيسية الداخلية حتى لا نعطيهم حرية الانسحاب بسلام، ونجعل من هذا الانسحاب تراجعا انهزاميا.
وما هي برأيك أهم نتائج المعركة في ذلك الحين؟
أهم نتائجها أن حركة المقاومة نمت بعدها باضطراد، وكبر الأردن بين أشقائه فتلقى دعما اقتصاديا، ثم وهذا هو الأهم سقطت أسطورة الجيش الإسرائيلي، خاصة وان قواتهم التي حشدوها للمعركة كانت تزيد على قواتنا بنسبة 15/1 وكنا نفتقر إلى أي غطاء جوي، ولو توفر لي هذا الغطاء لاستطعت اسر الآلاف منهم، بل ولقررت العبور إلى الأرض الفلسطينية. لقد حسب دايان حساب كل شئ غير انه لم يحسب حساب الإرادة.
أخيرا، كيف تنظر إلى اتفاقات السلام مع إسرائيل بوصفك قائدا لإحدى أهم المعارك العسكرية ضدها؟
نحن دعاة سلم، وديننا يدعو إلى السلم، ومنذ خمسين عاما ونحن في حالة حرب بدون نتيجة لكن ذلك لا يعنى التنازل عن حقوقنا.
نريد أن يكون السلم مشرفا يعيد حقوقنا المسلوبة، وإسرائيل تريد السلم والأرض والاقتصاد معا. أنا لا اعتقد أن هذا السلم يخدم الأمة، واعتقد انه أعطى إسرائيل ما لم تكن تحلم به طوال تاريخها. وهو الدخول إلى الأمة العربية لتوطيد أحلام إسرائيل الكبرى حتى ولو بالمعنى الاقتصادي والنفسي في المنطقة العربية.
وما هي رؤيتك للمستقبل ؟
هذه فترة من تاريخ الأمة العربية وستنطوي دون شك لان الامة العربية ذات التاريخ والإمكانيات الكبيرة لا يمكن لإسرائيل أن تسيطر عليها وتهينها، فأنا أعتقد أن المستقبل سيكون لصالح هذه الأمة. لا يوجد مستحيل، وقد كانت معركة " الكرامة" درسا مبكرا من اصغر قوة في المنطقة، أي القوة الأردنية ، بإمكانية الانتصار إذا توفرت الإرادة.