لم يكن بدعاً من القول أن يطلب محمود درويش في جداريته أن يدفن على إيقاع سورة الرحمن،محمود المتهم بأنه لم يرجُ لله وقارا حين خاطب الله سبحانه بقوله:جرّبناك،في تعارض حتى مع توجيه المسيح عليه السلام:لا تجرب الربّ إلهك !
ولكن الشعر يهيم في واد،وينقلب على نفسه في حضور النص المهيمن!
أولم يسبقه المكابر الجاحد بآيات الله الوليد ابن المغيرة بالتسليم بهذه الهيمنة في حضور النص فلم يملك إلا أن يشهد بما أنطقه به هذا الحضور المهيمن من أثر:
إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو ولا يعلى عليه،حتى قال له أصحابه:لقد رجعت بغير الوجه الذي ذهبت به.
فأين الصورة موضع الإعجاز في التئامِ أو انسجامِِ أو تماهي المعنى مع الإيقاع؟
يقول محمود:نون الرحمن،والحقيقة أنها النون المسبوقة بالألف الممدودة في خواتيم الآيات:
الرحمان،القرآن البيان الإنسان: التي تتيح للذهن فسحة في تأمل المعنى وربط ما قبل بما بعد،أو التنقل بين المعاني عبر ما يمكن ان نسميه تجاوزاً أو قياساً اللازمة الإيقاعية: فبأي آلاء ربكما تكذبان!
حتى أن الجملة الكاملة المتكاملة قد شطرت بهذه الآية :
فكان يمكن أن تكون الآية هكذا:حور مقصورات في الخيام لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان،ولكن النص فرقها بالآية :فبأي آلاء ربكما تكذبان!
فأي أثر فارق أحدثه هذا التفصيل؟
الحقيقة أن مواضيع السورة تتنقل بين مواضيع مختلفة ،بين الإنسان الذي علمه البيان،وهي الخصيصة الإنسانية التي وضعت الإنسان موضوع الخطاب على قمة هرم الخليقة،وحبته ميزة التفوق على باقي مخلوقات الله!
والله سبحانه وتعالى يخاطبه من خلال هذه الخصيصة:اللغة أو البيان وللبيان أبعاد لا تتوقف عند التعريف المبدئي للغة،بل تتجاوزه إلى الإفصاح والتصوير والإيجاز والتفصيل وكل خصائص اللغات البشرية وامتيازاتها،وما تتيحه من الخيال والتبصر والتأمل والإحاطة بكل ما هو كوني.
ولذا ينتقل النص من الإنسان إلى الاستعراض الكوني المتاح فهمه للإنسان من خلال البيان:الشمس والقمر بحسبان،والنجم والشجر يسجدان،وهنا بدون الفاصلة الإيقاعية،في تأكيد أو إيماء على تكامل الظواهر الكونية وارتباطها معاً بنسق يدلل على إعجاز الخلق في توازٍ مع إعجاز النص!
مرج البحرين يلتقيان،فبأي آلاء ربكما تكذبان،بينهما برزخ لا يبغيان،وهنا تدخل اللازمة بين الآيتين في تكريس لمعنى محدد في الذهن وهو أن كل ظاهرة كونية مفردة هي معجزة بحد ذاتها أولاً ،ثم بما يترتب عليها أو يرتبط بها من ظواهر أخرى،فالمرج أو المزج،قد يقتضي الإختلاط كما قد يعرض للذهن،ليعود النص ليلفته إلى أن المزج لم يحدث،أليس ذلك تأكيداً للتفرد والإعجاز بتوظيف اللازمة وتوسطها بين الآيتين.
لينتقل بعد ذلك إلى المصير البشري المحتوم:الفناء:كل من عليها فان!
ليثير في الذهن التساؤل الإنساني الأزلي عن معنى الحياة ومغزى الخلق،إذا كانت ستنتهي إلى هذه النهاية الفاجعة العدمية؟
وعبر هذا المدخل ينتقل إلى تفاصيل العقيدة،في استدراك بليغ إلى ان الأمر ليس كذلك،فهناك حياة أخرى، وهنا استعراض لمشاهدها وللمصير الإنساني المعلق على الخيار الإنساني في هذه الحياة،ولمن خاف مقام ربه جنتان.
تصور لو أن هذا التنقل وهذا التفصيل قد احتشد عبر النص في تراتب من غير اللازمة الإيقاعية وبقافية غير الألف والنون التي أبهرت شعرية درويش وبلاغة ابن المغيرة،هل كانت ستحدث الأثر نفسه وبمثل هذا العمق؟
أترك الباقي لخيال القاريء والمتلقي لأتيح له فسحة للتأمل!
والله الموفق!
نزار حسين راشد